جوانب من مساهمة الجنود المغاربة في الحرب العامية الأولى/ معركة لامارن 1914
منذ أن انفجرت الحرب العالمية الأولى في شهر غشت من عام 1914، وقف المغرب دون تردد إلى جانب الحلفاء، وسالت دماء مقاتلينا في معركة المارن وفردان، يومئد كتب الجنرال ليوطي من الرباط إلى ميلران (Millerand)، وزير الحرب الفرنسي في الحادي عشر من شهر يوليوز سنة 1915، يقول : "لقد قاتلوا بشجاعة لا نظير لها... وسموا فوق ما كان يؤمل منهم، ولكننا هنا أخذنا نعلم لم يبق منهم إلا القليل القليل، وأعتقد جديا أن أمن المغرب يفرض علينا أن نعاملهم معاملة أفضل"।
المغفور له الحسن الثاني، التحدي، المطبعة الملكية، 1983، ص. 26.
عرف القرن العشرين العديد من الحروب والمعارك، ساهمت فيها تراكمات ما شهده القرن التاسع عشر من تجادبات استعمارية، لاحتلال مناطق والسيطرة على مواردها الاقتصادية، وبالرغم من الاتفاقات الثنائية التي قسمت العالم بين القوى الكبرى، لكن تلك التفاهمات لم تكن بمنأى عن تكوين تكتلات عسكرية وذلك بالعودة إلى تفعيل اتفاقيات تم إبرامها بين ألمانيا والنمسا-هنغاريا وإيطاليا فيما يسمى الحلف الثلاثي (دول المركز) عام 1882 أو بين روسيا وفرنسا عام 1892 والذي تطور بانضمام إنجلتر إليه في العام 1907 في إطار وفاق ثلاتي (دول الوفاق).
لقد اختلفت الأسباب والمسببات، وتعددت الذرائع التي استعملتها الدول المتحاربة في إشعال الحروب في مجمل الدول الأوربية ونقل فتيلها إلى مستعمراتها، بل الأكثر من ذلك هو استعمال مواردها الاقتصادية وإقحام سكانها في الحروب التي دارت بمختلف الجبهات الأوربية.
لقد كان المغرب كغيره من الدول التي ساهمت في المجهود الحربي الفرنسي في الحرب العالمية الأولى، إذ فمنذ مجيء البعثة الفرنسية إلى المغرب في العام 1877؛ للقيام بالتكوين والتدريب للجيش المغربي على عهد السلطان مولاي الحسن في إطار سياسته الإصلاحية؛ تعرف كبار القادة العسكريين الفرنسيين على مدى قدرة الجندي المغربي على التأقلم مع الظروف المناخية والجغرافية، وتميزه بقدراتهم الحربية العالية، عن باقي جنود المستعمرات الفرنسية بالشجاعة وتأديته الواجب العسكري على أكمل وجه. كل ذلك جعل المسؤولين العسكريين الفرنسيين يعملون على خلق فرق عسكرية متخصصة أطلق عليها اسم : "الفرق المغربية المساعدة"(Troupes des Auxiliaries Marocaines)، كان أبرزها : فرق الكوم والصبايحية وفرقة الرماة الأهلية.
وعليه، وبفرض الحماية على المغرب في 30 مارس 1912، تمكنت فرنسا إلى حد ما بالسيطرة على مواقع استراتيجية بالمغرب، باستخدام جنود المستعمرات خاصة من الجزائر وتونس والسينغال، في إطار ما أسمته بعمليات التهدئة، وإقحام جنود مغاربة بالقوة في تلك العمليات مما، أفرز توجه جديد لدى سلطات الحماية، يدعو إلى إشراك المغاربة في الحروب الفرسية، خصوصا بعد تأكدها بالجاهزية القتالية للجنود المغاربة الذين تم تكوينه تكوينا عسكريا يتلاءم والإستراتيجية العسكرية الفرنسية.
وقد بلغ عدد الجنود المغاربة المنظمين داخل الفرق العسكرية إلى 12856 رجلا، مشكلين 5 كتائب من 20 مجموعة مكونة من 14 من الكوم المشاة و14 من الكوم على الخيل ومجموعتين من المدفعية وفرقة من الهندسة، أضيفت إليهم فرقة أخرى من المدفعية وفرقة طبية ومتطوعون ومخازنية؛ حتى وصل العدد إلى حوالي 20000 فردا، تم تدريبهم في مراكز أعدت لذلك في كل من تازة وخنيفرة ومراكش والصويرة وأكادير وغيرها من المراكز العسكرية.
وقد بدأت الاستعدادات في شهر رمضان من العام 1332 / يوليوز 1914، حيث أكد المقيم العام الجنرال ليوطي في برقية موجهة إلى حكومته بباريس، ومؤرخة في 27 بوليوز 1914، أن "مصير المغرب سيحدد انطلاقا من اللورين"؛ مستعملا أساليب متعددة لإقناع الحكومة الفرنسية المترددة، ومستعينا بقادته العسكريين الميدانيين في وضع برنامج متكامل لتسجيل المغاربة بطرق مختلفة للمساهمة في الحرب ضد ألمانيا المعتدية حسب التوجه الرسمي الفرنسي، وقد قام الجنرال ليوطي بحملة دعائية واسعة بواسطة الصحافة الفرنسية والعربية، والقيام بتثبت لوحات إشهارية في مداخل المدن وبالقرى والأرياف المغربية واستعمال العديد من العناصر المحلية للتأثير على السكان من أجل التسجيل في لوائح التجنيد المعدة سلفا. وقد وجدت تلك العمليات ردود فعل مختلفة لدى المغاربة، تراوحت ما بين الرفض، وما بين القبول باعتبار أن "الدولة الفرنساوية تعرضت للاعتداء من قبل عدو شرس".
و تم تشكيل فوج المشاة مكونة من 5 فرق من الصباحية (Spahis)، تتضمن ضباطا وضباط صف، يتكلمون الدارجة امغربية وقريبين من الجنود، يتمتعون بخبرة طويلة ودراية عميقة بأسلوب المواجهات والمعارك التي دارت بالمغرب، وكانت هذه الفرق تحث قيادة اليوتنان كولونيل ديبرتيوس (Dupertuis).
لقد استعملت سلطات الحماية جميع الضغوط على السلطان مولاي يوسف من أجل السماح بمشاركة الجنود المغاربة في الحرب، وبالرغم من عدم وجود خلاف بين المغرب وألمانيا إلا أن سلطات الحماية الفرنسية، أوجدت فرنسا عدة صيغ للتمويه، منها دفع المغرب إلى قطع علاقاته مع ألمانيا وحلفاءها. وتحفل الجريدة الرسمية بظهائر تؤكد على ذلك منها : "ظهير شريف برفع ما تقدم من المصادقة على تولية قناصل الألمان في المغرب"، و"ظهير شريف برفع الامتيازات والحمايات الألمانية بالمغرب" و"ظهير شريف برفع ما تقدم من المصادقة على تولية قناصل دولة النمسا في المنطقة الفرنساوية من الإيالة الشريفة" كل تلك الظهائر مؤرخة بـ 5 غشت 1914.
وقد نجحت السلطات العسكرية الفرنسية، في مطلع شهر غشت من العام 1914، من تجميع حوالي 90.000 رجل في مراكز التجنيد الموجودة في الدار البيضاء والرباط ومراكش ومكناس وفاس. وبعد الإجراءات الإدارية تم انتقاء العناصر التي شكلت فرقة الجنود المغاربة، وتكونت من خمس كتائب أطلق عليها اسم "الرماة الأهلية المغاربة"، حيث تم نقلهم من ميناء القنيطرة (بور ليوطي) وميناء الرباط إلى مدينة وهران ومنها إلى مدينة بوردو وسات. ومنذ التحاقهم بفرنسا تم تجميعهم في مخيمات حيث سيتم تكوينهم تكوينا عسكريا معمقا وإرسالهم مباشرة إلى الجبهة.
واستفاد الجنود المغاربة نظرا لقوتهم وقدرتهم وخبرتهم الطويلة في المجال العسكري في المساهمة في النصر الذي حققه الجنرال جوزيف جاك جوفر (J. J. Joffre) في معركة لامارن الأولى؛ إذ تم نقلهم في الفاتح من شتنبر 1914، عبر السكك الحديدية إلى منطقة إيبرناي (Epernay)، والتحقوا هناك بفرق الخيالة، بقيادة الجنرال كونو (Conneau)، وتم تكليفهم بحماية مركز القيادة، وفي هذا السياق يقول أحد المؤرخين المغاربة : " إن الجنود المغاربة شاركوا في جميع المعارك، أكثر ضراوة مثل لامارن، وعاشوا قساوة البرد والحرمان في الخنادق وأبانوا عن شجاعة ناذرة، اعترف بها خصومهم الألمان، كما قتل عدد كبير منهم بسبب وجودهم دائما في الخطوط الأمامية، كما أنهم اكتسبوا تجربة عسكرية بالغة الأهمية أهلتهم لاستعمال الأسلحة المتطورة والتكييف مع النظام العسكري الحديث" (دار النيابة، شتاء 1989).
لقد شكلت الجنود المغاربة الجناح الأيمن للجيش السادس للجنرال جوزيف ماونوري (J.Maunoury)، الذي كان تحت قيادة الجنيرال جوزيف سيمون كالييني(J.S. Gallieni) الحاكم والقائد العسكري للمنطقة العسكرية لباريس ورئيس الجيش السادس، وبمنطقة لورك خلال معركة لامارن في سواسان دوليزن بفيردان، وخلالها قاتل الجنود المغاربة على جميع الجبهات وفي كل اصطدام مباشر، حيث أبدوا خلال المواجهة الفردية شجاعة وبسالة قل نظيرها أمام الجنود الألمان العارفين بالبنية الأوروبية، أصبح المحاربون المغاربة يلقبون ب "خطاطيف الموت" لكونهم يقاتلون تحت جنح الظلام ويتمتعون بنظرة ثاقبة قوية خلال الليل، ويتحكمون بالمعركة ويحسنون استخدام الأسلحة البيضاء خاصة الساطور. وقد تمكنوا خلال تلك المعارك من أسر مجموعة كبيرة من الجنود الألمان الذين كانوا قد استولوا على مدينة شودان، فنالوا إعجاب وزير الحرب الفرنسي ميليران.
و اعترف العديد من القادة العسكريين الفرنسيين بشجاعة وإقدام الجنود المغاربة، حيث أكدوا أن " الرماة المغاربة" لم يتخلفوا أو يتقاعسوا في أخذ أماكنهم في الصفوف الأمامية، ضمن جنود المباغثة، وبرهنوا بذلك عن ميزة بطولية قل مثيلها في الجنود الآخرين". ولم تسجل فقط شهادة القادة العسكريين الفرنسيين، بل تم تسجيل شهادة القادة العسكريين ألمان بما فيهم الجنرال ألكسندر فون كلوك (Général Alexander Von Klück) قائد القوات الألمانية الذي اعترف بأن الجندي المغربي أفضل محارب في شمال إفريقيا بالرغم من أنه ولد وتربى في بيئة حارة، ولم يؤثر عليه المناخ البارد، حيث أن أعضائه تتأقلم مع جميع أنواع الطقس". وخلال المعارك الكبرى التي دارت رحاها بتلك الجبهات فقدت الفرقة المغربية في معركة لورك وحدها في شتنبر 1914، حوالي 19 ضابطا و1150 جنديا.
وفي نصف الثاني من شتنبر إلى غاية نونبر، أبلى الجنود المغاربة البلاء الحسن في جل المعارك التي دارت رحاها بمختلف الجبهات، حيث سيتم إرسالهم في نونبر 1914، إلى الجبهة البلجيكية. حيث شاركوا في معركة ليزير.
لقد شكلت معركة لامارن الأولى خلال الأيام الأولى من شهر شتنبر من العام 1914، مرحلة مهمة في تاريخ الحروب التي خاضتها فرنسا، والتي سجلت فيها انتصار باهرا على القوات الألمانية، انتصار كان معطرا بدماء مغربية زكية ساهمت في رسم صورة واضحة لبطولات الجندي المغربي الذي أرسى منذ فجر التاريخ القيم الإنسانية ودافع عنها واستشهد لمبادئها، وحملها إلبى أقطار وجبهات أخرى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire